صالح النملة،
السياسة الخارجية البريطانية
.. استثمار التناقضات،الرياض . 2017
يمكن توصيف السياسة الخارجية البريطانية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة على أنها سياسة حزب العمال "الجديد"، فلنبدا أولا بالسؤال عن "جديد" حزب العمال؟
تعود تسمية حزب العمال البريطاني "بالجديد" إلى فترة وصول رئيس الوزراء توني بلير إلى زعامة الحزب، وقد اراد التوجه الجديد ان يكون بمثابة ممثل لتيار وسطي يتجاوز الأطروحات اليسارية ذات الطابع الايديولوجي ويقترب أكثر فأكثر من الأطروحات الليبرالية، وكان قد تم التعبير عن هذا التوجه الجديد بالقول انه "طريق ثالث" يرمي إلى النجاح على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي بغض النظر عن اللون الايديولوجي، لكن المقولات الاقتصادية والاجتماعية استتبعت ضمنا خيارا سياسيا. كما ان حزب العمال الجديد حرص على ان يكون أوروبيا بقدر كونه أطلسيا، مؤيدا للاندماج الأوروبي بقدر تمسكه بمقولة "العلاقة الخاصة" مع الولايات المتحدة، وهنا جوهر التمايز عن فلسفة حزب المحافظين، التي طبعت السياسة الخارجية البريطانية في ذروة الحرب الباردة.
ويمكن القول انه في مرحلة وصول الرأسمالية إلى ذروتها، فإن الناخبين في بريطانيا والغرب عموما اتجهوا لدعم الاحزاب التي تقترح فرض بعض القيود على السوق الحر، وتقديم التعويض عن بعض أشكال الخلل الاجتماعي والاقتصادي الذي أفرزته، أو يمكن القول ان هذه الاحزاب هي ذاتها التي مهدت الطريق وقدمت التسهيلات للرأسمالية المتطرفة وآليات السوق الحر على مدى نصف القرن الماضي. إن كلا المقولتين صحيحتان لأنه حتى الآن لا يزال من الصعوبة بمكان تحديد أو تعريف الطريق الثالث، ولأن من يؤيدون الطريق الثالث غالبا ما يعرفونه ليس بما هو ولكن (بما ليس هو).
وإذا كان الطريق الثالث ليس أكثر من ردة فعل على اليسار القديم واليمين الجديد، فانه قد ينظر إليه على أنه أسير للمداولات القديمة أكثر مما هو دليل للمستقبل. و"الطريق الثالث" ليست عبارة مستحدثة، فمنذ عقود خلت وصف الصحافي الأميركي ماركيز تشايلدز الديمقراطية الاشتراكية السويدية على أنها تجسيد "للطريق الثالث" بين الرأسمالية الأميركية والاشتراكية السوفياتية. أما الطريق الثالث الجديد فيبدو انه يقع بين السويد والولايات المتحدة، مما يسمح بالاعتقاد بأن مضمون هذا النهج يبقى نسبيا ومقيدا إلى حد كبير بمقولات واطروحات السياسيين والأكاديميين.
وبالنسبة لبريطانيا تحديدا، يمكن القول ان الفترة من العام 1979وحتى العام 1990هي فترة التحولات العميقة التي أجرتها تاتشر في السياسة والاقتصاد والمجتمع، بل ان بريطانيا ما زالت تخضع بشكل أو بأخر لآثار التاتشرية.
لقد حرصت تاتشر على الوصول لكافة الفئات المنضوية تحت لواء حزبها من المحافظين الاسكتلنديين إلى المحافظين الويلزيين والنساء المحافظات وأعضاء النقابات العمالية المحافظين واتحاد الطلاب المحافظين وغيرهم. ولهؤلاء كانت تقدم خطباً وطنية رنانة عن تصميمها على وقف تدهور بريطانيا كدولة عظمى، عبر إحياء فضائل من مثل الحرية والمغامرة التجارية والفرص الفردية والاعتماد على النفس.
ولقد كانت تاتشر، ومنذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها الاهتمام بالسياسة، مولعة بالشؤون الخارجية والعسكرية أكثر من الشؤون الداخلية. وبعد ان كان كل من ماكميلان وبعده هيث كزعيمين لحزب المحافظين ورئيسي حكومة قد قيداها بالسياسة الاجتماعية، فإن تاتشر ما ان أصبحت زعيمة الحزب حتى أخذت تبدي رغبتها القوية بإخراج نفسها إلى المشهد السياسي العالمي.
ولم يكن هذا يشكل تضارباً مع هدفها الرئيسي باعتبار انها كانت ترى ان لب المشكلة التي تواجه الاقتصاد البريطاني يكمن في وجود "الكثير من الاشتراكية"، التي لم تكن بالنسبة لها سوى نسخة محلية أقل قوة من الشيوعية.
ولهذا فإن هدفها قصير الامد كان تحرير الاقتصاد البريطاني، بيد ان هدفها الأبعد والجوهري تمثل لا باستئصال أعراض ومظاهر الاشتراكية في البلاد فحسب بل الهجوم والقضاء على الفيروس ذاته الذي كان مصدره وتربته الخصبة الاتحاد السوفياتي، وبمعنى آخر فإن العمل لدعم الاقتصاد البريطاني بالنسبة لتاتشر كان جزءاً من الصراع ضد الشيوعية.
وبشكل يتجاوز في عمقه المضمون العقائدي للحرب الباردة، كان الالتزام الصارم الذي ابدته تاتشر نحو القوة العسكرية البريطانية متجذراً في الشكل الذي تتصوره عن الهوية القومية والتاريخ، اذ كانت سنوات الحرب العالمية الثانية بمثابة الوعاء الذي بدأت فيه تجربتها السياسية بالتشكل، والدرس الذي تعلمه السياسيون حول المهادنة كان متجذراً في أعماقها، اذ ان السياسيين البريطانيين عموما ما زالوا يعتبرون ان المهادنة التي أظهرتها بريطانيا لهتلر تجاه توسعه في أوروبا كانت المسؤولة عن اندلاع الحرب العالمية الثانية.
وبعد العام 1945كانت المعادلة البسيطة التي آمنت بها تاتشر هي ان روسيا السوفياتية تساوي ألمانيا النازية، وانها القوة التوسعية التالية التي يجب الوقوف في وجهها، وبالفعل لم تر تاتشر خلافا بين النازية والشيوعية، ودائما ما كان يحلو لها التذكير بأن مصطلح النازية ما هو إلا اختصار مشتق من الاشتراكية القومية.
كذلك، اتجهت تاتشر لشن هجوم مستمر على الشيوعيين الاوروبيين في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، فضلا عن بريطانيا نفسها.
وفي سنواتها التي قضتها زعيمة للمعارضة زارت تاتشر ثلاثة وعشرين بلداً لتتعرف على الزعماء الذين ستتعامل معهم حين تصبح رئيسة للوزراء ومن بين هذه الدول كل شركاء بريطانيا الاوروبيين واثنتان من دول أوروبا الشرقية اللتان كانتا الاقل خضوعاً لسيطرة موسكو وهما رومانيا بزعامة تشاوشيسكو ويوغسلافيا تيتو.
كما ان خطتها القوية المعادية للسوفيات أكسبتها دعوة لزيارة الصين في العام 1977، إضافة إلى أنها زارت مصر وسوريا وإسرائيل في بداية العام 1976وفي أواخر ذلك العام قامت بجولة مطولة شملت الهند وباكستان وسنغافورة ثم استراليا ونيوزيلندا، لكنها لم تصل في تلك السنوات لأفريقيا جنوب الصحراء أو أميركا اللاتينية أو الخليج.
ومنذ تسلمها السلطة في العام 1979التزمت تاتشر سياسة أطلسية شديدة الارتباط بالولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وفي الوقت نفسه كانت تنظر بعين الريبة لمقولات الوحدة الاوروبية، التي لم تر فيها سوى طموحاً ألمانيا للهيمنة على أوروبا، وان فرنسا كانت تحابي الألمان "خوفا" منهم. بل ان تاتشر ذهبت في مذكراتها إلى حد القول بأن الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران قد خدعها لتوافق على الانضمام للاتحاد الاوروبي.
ولا تزال تاتشر تندد بسياسات حزب العمال الأوروبية، وهي عادت لتحذر بأن المشروع الأوروبي ما هو إلا "خدعة ألمانية" وان العملة الموحدة والاتحاد الاقوى لن يعملا على تشكيل ألمانيا أوروبية بقدر ما سيفرزان أوروبا ألمانية.
وخارج بريطانيا، يمكن ان نلحظ ان اليمين الأوروبي بصفة عامة لا زال يفضل فكرة التعاون ما بين الحكومات على ما يراه قسرية اتحادية في المركزية الاوروبية، وليس ادل على ذلك من برامج الانتخابات الفرنسية ومن بعدها الألمانية، فحملة جاك شيراك لم تتطرق إلى فكرة الدولة الأوروبية الموحدة ولا إلى رأي الفرنسيين بالامر الذي يناضل رئيسهم السابق جيسكار ديستان من اجل حصوله في العام 2003، اي الدستور الاوروبي المشترك. ومن جهته اكتفى ليونيل جوسبان بالبعد الاقتصادي الاجتماعي للتكامل الأوروبي باعتبار أن ما يحدث اليوم ليس إلا حصيلة 57سنة من الجهود التكاملية في هذا المجال. ومثل هذا يمكن سحبه على إيطاليا البيرلوسكونية كما على اسبانيا وايرلندا والدانمارك.
كذلك، يمكن ان نلحظ بأن البعد الاجتماعي لأوروبا لا زال يشكل أحد مواطن الخلاف بين أحزاب اليمين واليسار، في ظل وجود تيارين أيديولوجيين عريضين يؤكد أحدهما على الوزن الحاسم للبعد الاجتماعي في الوصول إلى توحيد أوروبي فاعل وحقيقي، بينما يؤكد التيار الآخر على البعد الاقتصادي وتوفير سبل المنافسة في الاسواق العالمية بعيداً عن الهمّ الاجتماعي.
وخلافا للإرث المحافظ، حاول حزب العمال البريطاني الوقوف عند نقطة وسط من المقولات الاجتماعية والسياسية الاوروبية، مع تواصل ملحوظ لمبدأ "العلاقة الخاصة" مع الولايات المتحدة.
لقد ركز توني بلير اكثر ممن سبقوه على مقولة تطوير "سياسة أوروبية للأمن والدفاع". وقد اعتبر هذا التطور بمثابة حدث كبير بعد فترة التردد التي استمرت لعقود. وهنا لا بد من التأكيد على الاهمية الاستراتيجية لتبني بريطانيا لموقف الدفاع عن ملف الاندماج الأوروبي على صعيدي الأمن والسياسة الخارجية، ذلك ان بريطانيا تبنت تقليديا موقفاً متميزاً عن القارة باعتبار أنها جزيرة، وان خيارها يبقى أنغلوسكسونياً.
وقد شهدت الفترة الواقعة بين توقيع اتفاقية ماستريخت في العام 1997وقمة نيس في جنوب فرنسا في العالم 2000تطورات مهمة في المشهد الامني والدفاعي الأوروبي، وبدا بوضوح ان دول الاتحاد الأوروبي تميل نحو إيجاد صيغة دفاعية مشتركة.
وكان مفهوم الأمن الأوروبي قد شكل لسنوات طويلة إحدى نقاط الخلاف بين دول غرب أوروبا، التي انقسمت فيما بينها إلى تيارين: الأول تقوده فرنسا ويقول بوجود مفهوم دفاعي أوروبي مستقل يحتفظ بعلاقة قوية مع الناتو، وتيار آخر تمثل بريطانيا وبعدها ألمانيا حجر الأساس فيه، ويقول بجعل الدفاع الأوروبي جزءاً من استراتيجية الناتو ذاتها.
وفي إطار العلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة، يمكن ملاحظة بعد شخصي في حركة بلير الدبلوماسية، إذ ما زال يحرص على الضرب على وتر الصداقة الشخصية التي تربطه بكبار الساسة الأميركيين، وقد كان هذا الكلام صحيحا خلال حقبة كلينتون حيث كان الإعجاب متبادلاً، ولكن بلير ما زال متمسكا بمسألة الصداقة حتى مع جورج بوش على الرغم من اختلاف الزعيمين من حيث التكوين والنهج، وربما يرجع هذا التمسك بالصداقة إلى ان بلير لا يريد ان يدمغه أحد بنعوت التبعية التي سبق وألصقت في مقاربة تاتشر للعلاقة بالولايات المتحدة.
ويمكن ان نلحظ أنه من بين كل الزعماء الأوروبيين كانت استجابة بلير لهجمات 11ايلول سبتمبر الأقوى والأسرع، فقد بادر بلير للإعلان على الفور عن ضرورة محاربة الإرهاب وتعهد بإرسال قواته للقتال في أفغانستان، واخيرا ظهر بلير بالصورة التي طالما رأى نفسه فيها يلعب دوراً عالمياً محورياً ودور جسر بين الولايات المتحدة وأوروبا.
ولكن الآن وبعد مرور عام على أحداث ايلول سبتمبر يجد رئيس الوزراء نفسه في موقف حرج على نحو غير متوقع، على الرغم من أنه لا يزال يسود في استطلاعات الرأي ويتمتع بأغلبية برلمانية للانتخابات التي لن تجري قبل نحو ثلاثة أعوام، فالاقتصاد البريطاني يؤدي بشكل جيد نسبياً وحزب المحافظين المعارض لا يزال يحاول استجماع قواه بعد الهزيمتين الساحقتين اللتين مني بهما في الانتخابات العامة لعامي 1997و2001م.
ان الإحساس بأن بلير في وضع حرج قد يبدو غريباً لكن هذه ليست إيحاءات يطلقها خصومه، بل ان العديد من مشكلاته تأتي من أصدقائه الحاليين أو أصدقائه السابقين، وهذا يجعل التعامل مع هذه المشكلات أمراً أكثر صعوبة.
ان علاقة بلير الوثيقة بالرئيس جورج بوش تتجه نحو دائرة التساؤل والاستفهام، ذلك ان بلير لا يستطيع المضي قدماً في ضرب العراق أو إيران أو كوريا الشمالية، كما ان الصور الملتقطة للسجناء المحتجزين داخل أقفاص معدنية في قاعدة أميركية بكوبا تركت أثرا سلبياً في بريطانيا.
وكان وزير الخارجية جاك سترو صريحا بما يكفي للتعليق بأن "محور الشر" الذي اشار إليه بوش في خطابه عن حالة الاتحاد لم يكن سوى جزء من السياسة المحلية.
وهناك اعتقاد متزايد بأنه على الرغم من كون بريطانيا قد شكلت دعماً مفيداً في الأسابيع التي تلت اعتداءات 11ايلول سبتمبر، فإنها ليست أكثر من شريك سلس لاميركا، وان تأثير بلير على الرئيس بوش محدود، في وقت أصبحت جولاته المتواصلة حول العالم مزعجة للبريطانيين.
وبتطوير نمط رئاسي من الزعامة، لم يبق لدى بلير سوى بضعة حلفاء داخل مجلس الوزراء وهناك توقعات كبيرة بأن نائبه جون برسكوت سيتنحى في الانتخابات المقبلة، لا سيما انه لا يحظى بنفوذ كبير في الحكومة، حتى ان هناك تكهنات بأن بلير ربما يحاول ان يعيد إلى الحكومة معاونه الأسبق بيتر ماندلسون الذي ساعده في تشكيل حركة العمال الجدد قبل ان يجبر على الاستقالة مرتين بعد اتهامه بالتورط في فضائح.
لكن أكبر صعوبة يواجهها بلير في الحكومة هي علاقته بوزير الخزانة القوي غوردون براون، الذي كان في مرحلة من المراحل عاقداً العزم على الوصول إلى زعامة حزب العمال، ويُعتقد على نطاق واسع انه لم يتخل عن هذا الطموح على المدى البعيد.وبراون الذي يمسك بقبضته على الموارد المالية للحكومة، كان ولا يزال الشخصية المحلية المهيمنة على الإدارة، ولا ينوي التخلي عن شبر واحد من نفوذه. وقد رفض إلزام نفسه بانضمام بريطانيا إلى العملة الأوروبية الموحدة، الامر الذي يرغب بلير بتحقيقه كتتويج لفترته الرئاسية الثانية. لكن بدون موافقة براون، فإنه حتى قوة إقناع بلير لن تكون كافية للفوز باستفتاء جماهيري على عضوية اليورو.
تعليقات
إرسال تعليق